كان شهر شباط الماضي شهرا داميا في العراق، حيث أسفرت موجة من التفجيرات التي استهدفت العراقيين الشيعة عن سقوط قرابة 200 قتيل وأكثر من 550 جريحا. وتأتي تلك الهجمات على خلفية الجمود السياسي والتظاهرات التي تزداد عنفا، وهو الواقع الذي يعزوه عدد من المحللين والدبلوماسيين إلى حادثة اعتقال حراس وزير المالية رافع العيساوي بتهم تتعلق بالإرهاب.
وبدلا من إلقاء اللوم على الإرهابيين، كان هناك عدد كبير جدا من الشخصيات الأميركية والإقليمية التي تنحي باللائمة على الحكومة العراقية. على سبيل المثال، كتب أحد مستشاري الجنرال ديفيد بتريوس في مجلة ذي كومينتري ان الوضع أصبح الآن أكثر تعقيدا بسبب مساعي رئيس الوزراء نوري المالكي للثأر من أبرز خصومه السياسيين من قادة السنة، وكذلك ألقى محللان عسكريان اللوم على رئيس الوزراء العراقي دون غيره بحسب ما أوردته صحيفة واشنطن بوست في عددها الصادر يوم 8 شباط (فبراير)، وحقيقة الامر ان تلك الاتهامات ظالمة، غير منصفة، وغير حكيمة.
ومن المفارقة أنه، في ظل الخلاف بين السنة والشيعة، أصبحت الولايات المتحدة دولة ذات نهج طائفي على غرار المملكة العربية السعودية وتركيا. والحقيقة ان عواقب النهج الطائفي الاميركي في الشرق الأوسط، ستكون سيئة بالنسبة للمنطقة وبالنسبة للولايات المتحدة على حد سواء.
هناك أسباب عديدة وراء انزلاق أميركا في الطائفية الإسلامية. منها وقبل كل شيء أزمة احتجاز الرهائن الاميركين بعد الثورة الاسلامية في ايران عام 1979، فقبل الاستيلاء على السفارة الاميركية في طهران كانت الجامعات الإيرانية ترسل البعثات الدراسية الى الولايات المتحدة، وتنفذ برامج التعاون الثقافي، وكان لشركة بيل هليكوبترز مصنع كبير في اصفهان. حينها كان الأميركيون العاديون يعتقدون بان الشيعة أصدقاء، وليسوا محتجزي رهائن أو إرهابيين. لكن كل ذلك تغير مع قيام الثورة الإسلامية. المسؤول الاميركي ذو الخمسين عاما كان في السادسة عشر حين استولى الثوار الإيرانيون على السفارة الأميركية. لذا فمعظم القادة والضباط، والدبلوماسيون في الادارة الاميركية نشؤوا في ظل عداء الثوار الإيرانيين للولايات المتحدة.
وقلة قليلة من المسؤولين الأميركيين يتذكر الأيام التي كانت فيها الولايات المتحدة وايران حلفاء ومقربين من بعضهما.
ومن جانب آخر كان هناك للأميركان تجربة أخرى في لبنان عندما قام أحد عناصر حزب الله بصدم سيارته المملوءة بالمتفجرات باحدى منشآت قوات البحرية الاميركية في عام 1983، ورغم ان ذلك الهجوم حقق الهدف المنشود الا وهو رحيل قوات حفظ السلام الأميركية والفرنسية والإيطالية من بيروت، ولكنه من جانب اخر رسخ في الذهنية الأميركية فكرة أن الشيعة راديكاليون ومعادون لأميركا، ودمويون.
الجنرالات والدبلوماسيون السعوديون والاتراك والأردنيون كانوا سعداء جدا بتعزيز الانحياز الاميركي بهذا الاتجاه. داخل القيادة المركزية الاميركية كان ضباط الجيش الأميركي لا يتفاعلون سوى مع الجنرالات السنة. فالاغلبية الشيعية في آذربيجان تقع خارج حدود الاهتمام الاميركي، كما ان للولايات المتحدة وجودا عسكريا كبيرا في البحرين، وهي التي لا تسمح للشيعة بشغل المناصب الرفيعة في قوات الجيش والشرطة. وحين يجري الجنرالات والسفراء الاميركيون لقاءات في جميع أنحاء المنطقة، يقوم محاوروهم بانتقاد الحكومة العراقية، ليس بسبب المشاكل الخطيرة التي يواجهها العراق، ولكن لانها مكنت و للمرة الأولى الاغلبية الشيعية في العراق. حتى يومنا هذا، الدبلوماسيون والجنرالات العرب في منطقة الشرق الاوسط ينصحون بأن يقوم العراق بالغاء الدستور وحل الحكومة المنتخبة، واستبدالها بقيادة سنية قوية لجنرال عسكري. ربما كان حكم صدام يروق للملوك في الرياض وعمان، لكن العراق لا ينبغي أبدا ان يعود إلى عصر المقابر الجماعية وتبديد الثروة. والسبب الاخر وراء التحيز الطائفي لدى القيادة الأميركية هو نشاطات العديد من المنظمات الاسلامية في الولايات المتحدة الاميركية. أن ربع مسلمي الولايات المتحدة هم من الشيعة المهاجرين من إيران والهند، وباكستان، أو من الإسماعيلية في آسيا الوسطى. ويطغى على صوتهم صوت المنظمات الطائفية كمجلس العلاقات الإسلامية الأميركية، والجمعية الإسلامية لأميركا الشمالية التي تحصل على الملايين من الدولارات كتمويل من المملكة العربية السعودية وقطر، في حين أن تلك المنظمات تدعو للإسلام أقل بكثير مما تدعو لجماعة الإخوان المسلمين ونهجهم الطائفي. لكن يجب أن لا يفهم انتقادنا للموقف الأميركي من الشيعة بأن جمهورية إيران الإسلامية وحزب الله أنظمة ديمقراطية. فالشعب الإيراني يناضل من أجل التمثيل الحقيقي في الحكومة ويتمنى الإيرانيون في قم، لو كان عندهم ما يمتلكه العراقيون في النجف من الحرية الدينية. ومن جانب آخر، هناك شعور بالقلق لدى معظم اللبنانيين، من أن حزب الله يعمل اليوم كمافيا أكثر من كونه تيارا قوميا أو منظمة ترفع شعار "المقاومة".
في التشيع التقليدي ميول راسخة نحو الديمقراطية، حيث يقوم الأفراد باختيار مرجعهم كما تشجع السلطات الدينية على تبني الحوار وتقبل بالاختلاف في الرأي. ويتمتع المسلم العادي بحرية أكبر في سؤال المرجعية الدينية المنبثقة عن النجف وكربلاء من تلك الموجودة في الأزهر أو في الرياض. احتضان الفكر الفردي ينتشر بسهولة من المجال الديني الى الثقافة السياسية الشيعية. ولا بد من الاشارة الى ان السلطات الإيرانية منزعجة من النزعة القومية العراقية وحرية التعبير عند الشيعة العراقيين على وجه التحديد، لأن النظام الإيراني الذي يتبنى ولاية الفقيه لا يمكنه التسامح مع الحرية الفردية التي يتمتع بها العراقيين. فهي ترعى الميليشيات من أجل أن تفرض بقوة السلاح ما ليس في قلوب وعقول الشيعة العراقيين. لذا فالمسؤول الاميركي الذي يلقي اللوم على رئيس الوزراء نوري المالكي عن أعمال العنف الحالية هو ليس مخطأ فحسب، بل انه يشجع الإرهاب كذلك. فانتقاد مذكرات الاعتقال التي صدرت بحق طارق الهاشمي وحراس رافع العيساوي فيه تجاهل لحقيقة أن العديد من القضاة الذين قاموا بالتوقيع على تلك المذكرات هم من السنة كما ان فيه اغفالا لحقيقة ان المدعين هم من السنة. وليس ذلك فحسب، بل ان هناك اغفالا لحقيقة أن الحكومة العراقية تحركت أيضا لاعتقال الإرهابيين المنتمين إلى جماعات متشددة اخرى مثل جماعة جيش المختار. و ينبغي أن لا يقبل أي عراقي بأن يهدد السياسيين باللجوء الى العنف والإرهاب إذا لم تلب الحكومة مطالبهم، فهذه ليست عملية سياسية، بل انها ابتزاز، وسوف يؤدي الى تآكل الديمقراطية والحرية. مقاطع من الخطب التي تم القاؤها في مظاهرات يوم الجمعة في الانبار تبنت فكر تنظيم القاعدة الإرهابي ليس في العراق فحسب، بل في أوروبا والولايات المتحدة أيضا، حيث كان واضحا ان ما يهدف اليه الخطباء من وراء تلك الاحتجاجات في الأنبار هو ليس بناء نظام ديمقراطي في العراق، بل نظاما راديكاليا متطرفا وغير ديمقراطي. نعم العراق ليس دولة ديمقراطية مثالية، وينبغي على السلطات في بغداد بذل المزيد من الجهد لتحقيق الإصلاحات ومحاربة التمييز الطائفي، والقضاء على الفساد. كما يجب أن تجري في العراق انتخابات حرة ونزيهة، وشفافة، ليس فقط في بغداد والبصرة، ولكن أيضا في السليمانية وأربيل. إن أكثر ما يأتي بالنتائج العكسية هو قيام الحكومة العراقية المنتخبة وكل من يؤمن بالديمقراطية بتقديم تنازلات لمن يدعو الى الإرهاب.
ومن المثير للسخرية أن يكون المسؤولون الاميركيون على استعداد لقبول الدعاية التي تروجها دول المنطقة لدعم الإرهاب في ظل الهجمات الإرهابية المتكررة على بغداد، وإلقاء اللوم على الضحايا بدلا من الجناة.