لقد مضى حتى الآن أكثر من 10 سنوات على وصول حزب العدالة والتنمية برئاسة أردوغان إلى السلطة في تركيا، ومع ان الحزب لم يحصل سوى على 34 % من مجموع الأصوات، الا ان تقلبات قانون الانتخابات التركي مكنته من الاستيلاء على ثلثي مقاعد البرلمان، والسيطرة على الحكومة.
وشعر الأتراك وغيرهم على حد سواء بالقلق من أن انتصار أردوغان ينذر بتحول تركيا ذات المجتمع الليبرالي الى دولة دينية، وهو الذي وصف نفسه بأنه "إمام اسطنبول" و"خادم الشريعة" حين كان يشغل منصب عمدة أكبر مدينة تركية.
في أيلول 1994، تعهد أردوغان قائلا "سنحول جميع مدارسنا الى مدارس خطباء ودعاة وأئمة" (أي الى مدارس دينية). تلك القناعة الدينية هي التي حالت دون أن يكون أردوغان مؤهلا لأن يصبح رئيسا للوزراء في وقت مبكر، لكن لحسن حظ أردوغان، تمكن حزب العدالة والتنمية من استخدام سلطته التي حصل عليها بعد فوزه بأغلبية ساحقة داخل البرلمان التركي لتغيير القانون من أجل ان يتمكن من تولي رئاسة الحكومة.
وحين شكل الحزب أول حكومة، سعى أردوغان إلى طمأنة العالم بأنه لن يتبنى أجندة طائفية. وأكد عشية فوزه في الانتخابات "سنبني تركيا التي تسودها العقلانية والمنطقية". في بادئ الأمر، بدا أردوغان يسير على خط أكثر واقعية بدلا من النهج الديني، وعمل بجد لتحقيق الاستقرار للعملة وإصلاح الاقتصاد التركي المختل.
لكن، في الواقع، لم يتخل أردوغان يوما عن أجندته الطائفية، ففي حين يصف حزب العدالة والتنمية بأنه حزب شامل يمثل جميع الأتراك، لم يكن هناك أي سياسيين علويين بين أعضاء الحزب الذي يمتلك 363 مقعدا في البرلمان، في حين يشكل العلويون 20 % من سكان تركيا. ان إحصائية مثل هذه ليست وليدة الصدفة، بل جاءت نتيجة التعصب الديني السافر في تركيا. فأردوغان، في الواقع، يتبنى منهج الكراهية، ليس تجاه العلويين والشيعة فحسب، بل تجاه كل المسلمين الذين لا يتبنون قناعاته التي تعتمد الفهم الضيق الذي يروج له السعوديون وغيرهم من رجال الدين الطائفيين المتعصبين.
وبالتالي، فقد رفض أردوغان الاعتراف ببيوت العبادة الخاصة بالعلويين، حتى انه أمر بهدم العديد منها. وفي الآونة الأخيرة، أجبر الطلاب العلويين الذين يسعون للالتحاق بالمدارس المهنية للخضوع بدلا عن ذلك الى تعليم ديني يعرف بـ "إعادة التعليم" في المدارس الدينية السنية.
أردوغان ينظر الى العدالة عبر منظوره الطائفي، ففيما أعاد فتح التحقيقات واستجواب المشتبه بهم في قضايا تتعلق باستهداف ناشطين سنة منذ عقود مضت، يرفض صراحة فتح تحقيق في قضية مجزرة سيواس (واحد من كل 5 جنرالات أتراك هم في السجن الآن). وفي هذه المجزرة أحرقت مجموعة سنية متطرفة موالية لأردوغان في 2 حزيران 1993 فندقا في مدينة سيواس وسط الأناضول، كان يستضيف مؤتمرا للعلويين؛ وقتل في الحريق المتعمد 37 من القادة والمفكرين والمثقفين العلويين. رسالة أردوغان واضحة، وهي إن الولايات التركية لا تحمي سوى السنة فقط، والعلويون والشيعة والمسيحيون واليهود هم لعبة بيد القتلة.
توجهات أردوغان الطائفية السافرة أخذت تبدو جلية مؤخرا في سياسة تركيا تجاه العراق. في الواقع، لم يكن السبب الحقيقي وراء اعتراض أردوغان على الغزو الأميركي للعراق هو غياب موافقة الأمم المتحدة، بل لأن تركيا كانت تريد منع صعود الشيعة في العراق، فهي لا تزال تحتل ثلث جزيرة قبرص، وتنفذ هجمات على أهداف كردية شمال العراق، دون أي مراعاة لقرارات الأمم المتحدة. وفي الأشهر الأخيرة هدد أعضاء في حكومة أردوغان بشن عمل عسكري من جانب واحد ضد إسرائيل واليونان.
لذا فان الدوافع الحقيقية وراء التدخل التركي في السياسة العراقية هي دوافع طائفية. قبل حرب 2003، ساعد الأتراك في رعاية الجبهة التركمانية العراقية، وأكد الأتراك للتحالف الأميركي الأوروبي أن أعضاء "الجبهة التركمانية العراقية" هم المكون السياسي الأكثر شرعية ضمن المعارضة العراقية. ولكن بعد سقوط صدام، بدا من الواضح أن ذلك لم يكن سوى محض هراء، فقد كانت الخارجية التركية والدبلوماسيون الأتراك يهتمون فقط بتركمان العراق السنة دون الشيعة. فبالنسبة لأنقرة، لا يستحق التركمان الشيعة الدعم التركي.
طائفية أردوغان كانت أيضا وراء احتضانه طارق الهاشمي نائب الرئيس العراقي السابق، بالرغم من الأدلة الدامغة على تورطه بجرائم تتعلق بالإرهاب. وبغض النظر عن جوانب القصور في النظام القضائي العراقي، الا ان الحقيقة الثابتة هي أن لجنة من 9 قضاة يمثلون مختلف التيارات والخلفيات السياسية العراقية هي التي نظرت في الأدلة وفي سير التحقيقات، وهي التي أدانت الهاشمي. العراق ما زال يعاني من المشاكل الطائفية، ولكن ذلك ليس سببا يدعو الى تبرئة الارهابيين وافلاتهم من المساءلة.
فمنهج أردوغان في غض الطرف عن جرائم الهاشمي هو ذاته الذي دفعه الى نفي استهداف الرئيس السوداني عمر البشير للمسلمين في دارفور، والى تقديم دعمه الشخصي لياسين القاضي أحد ممولي تنظيم القاعدة.
بسبب ذلك، الأتراك والعديد من الأميركيين، يقولون إن هناك دوافع طائفية شيعية وضغطا إيرانيا وراء قرارالحكومة العراقية بمحاكمة الهاشمي. طهران طائفية نعم، ولكنها أخذت تبدو كذلك على نحو متزايد بسبب انعكاس صورة أنقرة والرياض. يجب ألا تحول الطائفة الدينية التي ينتمي لها ضحايا الارهاب وضحايا الجرائم، كما هي الحال في مجزرة سيواس، دون محاسبة المجرمين الفاعلين.
وإذا كان أردوغان يعتقد أن الهاشمي استهدف وحده دون غيره ممن ارتكبوا ذات الجرائم فليدعو الى محاكمة كل من زعيم الميليشيا الشيعية مقتدى الصدر ورئيس مخابرات حكومة إقليم كردستان مسرور بارزاني بتهم مماثلة. وفي غضون ذلك، دعونا نأمل ان تبقى الحكومة العراقية محافظة على استقلال ارادتها السياسية، والتصدي لا للضغوط الإيرانية فحسب، بل للابتزاز التركي أيضا.